اليوم الثالث: رأيت ضعفي..

 

قمة كيليمنجارو كما تبدو لي وأنا أكتب.. تصوير عمرو مرعي

اليوم كنت في عصر الجاهلية أسبح في الصحراء .. أطلب الغوث ولا أجد الدليل إلى النجاة!

هكذا شعرت معظم اليوم.. اليوم كان علينا أن نبدأ التسلق التأهيلي للمرتفعات… حيث كان علينا أن نصعد إلى ارتفاع شاهق يبلغ ٤٧٠٠ متر، نرتاح قليلاً ثم نعود ونبيت في مخيم بارانكو، والذي يقع على ارتفاع ٣٩٥٠ متر. ولدينا غداً تسلق مثيل.. الهدف هو أن نعرّض أجسامنا لارتفاعات جديدة حتى يبدأ تأقلمها على انخفاض نسبة الأكسجين فتتعزز قدرة تحملها في هذا الارتفاع..

اليوم انتقلنا في رحلتنا إلى إقليم صحراوي جديد.. فقد قلّت نسبة الزرع وانتشرت الصخور في كل مكان.. وكأنني على كوكب آخر لا يمت للغابة الغنّاء التي بدأنا رحلتنا فيها بأي صلة..

اليوم تعلّمت أن أحترم كل كلمة أسمعها من أي من يسبقني خبرة.. بل وأتّبعها بكل دقة وأنفذ كل شئ.. بدون أسئلة.. ولا داعي للاقتناع.. الطاعة العمياء أو الموت والفناء!

منذ اليوم الأول ترددت علينا إرشادات الفريق بأن أهم ما يجب علينا فعله اتقاءً للتأثير السلبي الذي يمكن أن يسببه الارتفاع هو أن نأكل ونشرب بصفة مستمرة.. وألا نبخل على أجسادنا بجميع العناصر الغذائية وبكمية وافرة.. فإن تسلق الجبل يمكنه أن يستنفذ طاقة الإنسان إلى أبعد مدى..

استيقظت نشطة وسعيدة وبدأ استعدادي اليومي للرحلة. دخلت خيمة الإفطار فوجدت نقانق.. بيض.. لحم!! قلت: “كيف لي أن أبدأ في التسلق وقد تناولت إفطار كهذا؟ مستحيل!” واكتفيت بقطعة خبز واحدة مع بعض العسل.. وكأنني أبدأ يوماً عادياً أقضيه داخل سيارتي وسط زحام القاهرة.. فلا أتركها إلا لأصعد بناية بالمصعد ثم أدخل فأجلس..

عادي يعني!

حرصاً مني على إسكات ضميري استمعت إلى إرشادات بركة بأن أتحرك ببطء.. وفعلت.. ولكن ذلك لم يكن كافياً، ومع تقدمنا في المسير نحو برج لافا، حيث الهدف، بدأت أشعر بضغط شديد حول رأسي تسرب إلى عيناي.. فسيطر علي شعور عجيب بأن عيناي ستنفجران!

نفس عميق… هذا ما علمتني نادية صديقتي وعمر منظم الرحلة… نفس عميق لاستيعاب المزيد من الأكسجين..

لحظة! لقد اختلف الشعور الآن! الآن صرت أشعر بدوران.. وصار النعاس يغلبني! كيف يغلبني النعاس وأنا أسير على قدمي وأحمل حقيبة لا يقل وزنها عن ١٠ كيلو والشمس تملأ المكان؟

الآن حان وقت المعركة مع العقل.. علي أن أسكت الوساوس والهواجس التي بدأت تهاجمني.. صار عقلي يلوح لي بعدم قدرتي على الاستمرار.. صار يخيفني من الارتفاع.. “أتظنين أنك نجوت من خطورة الارتفاعات؟ أي مرتفعات؟ الآن حان وقت المرفعات! والآن بدأ تأثيرها الفعلي عليك.. ماذا ستفعلين يا مسكينة؟” صرت أحاول أن أتجاهله وأنظر حولي في الصخور و أتنفس.. المزيد من النفس العميق.. هذا ليس تأثير المرتفعات.. هذه الشمس! نعم هي الشمس.. نحن الآن وقت الظهيرة وأشعة الشمس الحارقة تقترب كلما ارتفعنا..

زاد الإعياء فطلبت الراحة.. جاءني جوزيف وسألني بم أشعر.. قلت له أشعر بدوران ونعاس.. لا بد أن ذلك من تأثير الشمس..

“لا.. هذا تأثير الارتفاع.”

شكراً جوزيف.. ناصرت عقلي علي وأفشلت كل محاولاتي..

واكتمالاً للعنتي.. بحثت في الحقيبة ولم أجد أياً من مأكولات الطاقة التي كنت قد أحضرتها معي! نعم.. هذا هو اليوم الذي قررت فيه أن أكون “خفيفة”! آكل أكلاً خفيفاً وأختصر المتاع! تباً لي!

اكتفيت ببعض الماء وقطعة من الشوكولاتة ونهضت لاستكمال المسيرة..

استمر الدوران.. ثم بدأ يتحول تدريجياً إلى شعور عجيب وكأن رأسي يسبح في الهواء منفصلاً تماماً عن جسدي.. ثم بدأت أرى أناساً وأشخاصاً ليسوا موجودين! كنت أراهم يتحدثون ويضحكون.. ثم أعود وأستفيق فأجدني وحدي مع جوزيف وبركة.. هذا هو بوضوح إعياء الارتفاع..

في تلك اللحظة.. وكأن جسدي قد استلم زمام الأمور.. وجدت نفسي لم أعد قادرة على مقاومة النعاس.. قررت أن أسترق اللحظات التي لا يكون فيها جوزيف ملتفتاً لي وأغمض عيني وأحاول أن أنام وأنا أسير.. صار جسدي مرتخياً تماماً وبدأت أتصور نفسي مستلقيةً على فراشي في منزلي بالقاهرة.. نائمة في سبات عميق..

واشتد السعال.. ولم تثبت نظريتي أن جفاف الهواء سوف يخفف من وطأته.. بل صار صوتي يمتد أميالاً حتى سمعني أحد أفراد الفريق وعلّق عليه!

ثم أصبحت خطواتي أكثر صعوبة.. فصرت آتنفس بصعوبة أكثر وكان علي أن أقصر من خطواتي.. والتي كانت قصيرة في حد ذاتها!

في طريق العودة عاد الزرع وسيطر الضباب على المكان.. هذه أشجار إمبيشنز كيليمنجاري.. خاصة بجبل كيليمنجارو

عندما وصلت أخيراً إلى مخيم بارانكو توجهت فوراً إلى الخيمة.. أردت أن أكون مع نفسي.. ثم قلت لا.. علي أن أجتمع بالآخرين فأشاركهم الضحك والسمر.. تلك هي الطريقة الأمثل لمقاومة هواجس نفسي.. آخر ما أتمناه هو أن يتملكني الخوف أو أن يتملكني شعور بالضعف والعجز.. إن انتصر علي هذا الشعور انهزمت أمام نفسي.. ولا أعرف ماذا يمكن أن يعيد إلي عزيمتي..

حاولت أن أبدل ملابسي فنظرت إلى الحقيبة وفوجئت بأنني لم أعد أستطيع التعرف على الأشياء! بل وجدت أن يدي أضعف من أن تمسك بها!

تملكني البكاء لحظة مرور جوزيف للاطمئنان على حالتي.. لكنه حين اختبر نسبة الأكسجين في دمي ومعدل ضربات القلب وجد أن كل شئ مازال طبيعياً..

سألني “لماذا تبكين إذاً؟”

كنت أبكي لأن معركتي مع نفسي قد أرهقتني.. وأعيتني..

كم أنا ضعيفة! أم قوية؟ لا أدري.. لقد أراني الجبل ضعفي.. بل قذف به في وجهي.. انظري إلى حالك.. هذا هو الإنسان.. قد يأتيه يوماً فلا يجد القدرة على أن يخطو الخطوة الواحدة.. ولكنني أكملت! لقد استمرت هذه المعاناة اليوم لمدة عشر ساعات! أليست هذه قوة؟ ربما هي مجرد محاولة للاستمرار لا أكثر.. ترى ماذا سيحل بي الآن؟

أكتب الآن والساعة تقترب من الثانية ١٢ في منتصف الليل.. أجلس خارج الخيمة وأنظر إلى قمة كيليمنجارو.. ها هي تشرق أمامي ويعلوها الثلج.. وقد خفّ الضباب الذي كان يملأ المخيم.. النجوم تعلوني ولكنها قريبة.. قريبة جداً أكاد أمسكها بيدي!

وها هو الجبل بذراعيه يحتضن المخيم.. أشعر أنه يحتضنني ويربت على كتفي.. فقد رآني وأنا أوشك على الانهيار.. ولكن عشقي دفعني إلى أن أكمل.. وكأن دمي الآن صار يجري في عروقي مرة أخرى.. ولكنه يجري حاملاً معه لغة الجبل..

نعم.. لقد تعلمت لغة كيليمنجارو.. صارت تسري في دمي.. صرت والجبل واحداً.. يعرفني وأعرفه.. يحبني وأحبه..

 

, , , , , , , , , ,

  1. #1 by Zenat on أكتوبر 16, 2010 - 12:15 م

    اكثر من رائعة ننتظر المزيد

  2. #2 by Reem on أكتوبر 17, 2010 - 7:21 م

    علمتني مقالتك أشياء عديدة .. وأهم ما أعجبني.. تعبيرك بلفظ “لغة الجبل” فقد أعجبتني فعلا .. وتخيلت كل من يريد التسلق وهو يجلس القرفصاء بين يدي صخرة ضخمة من الجبل المستهدف لكي تقوم بتعليمه اللغة .. فإذا أجاد لمست بشرته رياح ناعمة ونسمة نشيطة ، وإذا أساء أصابه إعصار هزه هزا..
    ولو تركت نفسي على هواها لكتبت وكتبت وكتبت فقد سببتي لي المتعة وأطلقت لخيالي العنان..
    شكرا أروتي

    • #3 by Arwa Mahmoud on أكتوبر 17, 2010 - 8:37 م

      ما أجمل الصورة التي ترسمنيها يا ريم.. لقد اختصرت ما أحاول أن أقوله بمقالات عديدة في صورة واحدة في غاية الروعة.. أشكرك على تعليقك وأعتقد أن هذه المشاركة سوف تكون مخاضاً لأفكار جديدة ومثيرة..

      خالص محبتي..

أضف تعليق